رُوَّاد «الأجهزة مفتوحة المصدر» يسعون إلى مختبرات منخفضة التكلفة
معدات مخبرية تصنعها بنفسك: فلاي باي FlyPi هو لوحة تحكُّم خاصة بالمجهر الضوئي مفتوح المصدر، وقابلة للطباعة ثلاثية الأبعاد (يمين)، وأنبوبة ماصَّة دقيقة، قابلة للطباعة ثلاثية الأبعاد (يسار).
يَعرِف عددٌ قليل من العلماء أنه بدلًا من شراء أجهزة لمختبراتهم، يمكنهم ـ في كثير من الأحيان ـ صناعتها بتكلفة أقل بكثير، كما يمكنهم ضبطها وتخصيصها، بالاستعانة بتعليمات «الأجهزة المفتوحة المصدر» المتاحة مجانًا على الإنترنت.
ويأمل المتحمسون الخمسون الذين اجتمعوا في شهر مارس الماضي في مختبر فيزياء الجسيمات الأوروبي «سيرن» ـ بالقرب من جنيف بسويسرا ـ في معالجة نقص الوعي لدى الباحثين بالأجهزة العلمية مفتوحة المصدر. التقى هؤلاء في المؤتمر الأول المخصَّص للبحث في هذا الشأن، لاستعراض ومقارنة الإنجازات، ولرسم خريطة الطريق الهادفة إلى دعم التصنيع واسع الانتشار، ومشاركة الأجهزة المختبرية. يقول شانون دوسيماجن، أحد منظِّمي المؤتمر، والمدير التنفيذي لمجتمع علوم الهواة غير الهادف إلى الربح «ببلك لاب»: «نريد أن تصبح الأجهزة مفتوحة المصدر جزءًا طبيعيًّا من العملية العلمية». وقد قام أنصار الأجهزة المفتوحة (وهي تسمية جاءت على غرار «البرمجيات المفتوحة» في علم الحاسبات) بابتكار وإتاحة تصميمات مجانية على الإنترنت للعديد من أجهزة المختبرات، مستفيدين من تقنيات التصنيع، مثل الطابعات ثلاثية الأبعاد، وآلات القطع بالليزر، ومؤكدين أن مشاركة التصميمات وتطويعها لتلائم مستخدمين متعددين سيدفع بالتقدم العلمي إلى الأمام بخطوات واسعة، ولكن لا نستطيع القول إن فلسفة «اصنعها بنفسك، وأَشْرِك الجميع فيها» قد أصبحت سائدة بعد. يقول جوشوا بيرس، المهندس في جامعة متشيجان التقنية في هوتون: «أغلب العلماء لم ينخرطوا في الأمر بعد، وما زالوا ينتظرون». وقد نشر بيرس قبل عامين كتابًا موجَّهًا إلى العلماء، حول كيفية إنشاء مختبَر منخفض التكلفة.
معدات مخبرية منخفضة التكلفة
تَعِد حركة الأجهزة مفتوحة المصدر الحالية بنجاحات علمية كبيرة، حسب قول جيني مولوي، المشارِكة في تنظيم المؤتمر، ومنسقة مركز «أوبن بلانْت» للأحياء النباتية التركيبية، في جامعة كمبريدج بالمملكة المتحدة. وقد سارع كل من مشروعات علوم الهواة، والكليات، والباحثين ممن لا يملكون المال اللازم لشراء المعدات باهظة الثمن، إلى تبنِّي فكرة الأجهزة المفتوحة. فعلى سبيل المثال.. في عام 2009، كان إرفان بريجامبادا عالِم الأحياء الدقيقة في جامعة جادجاه مادا في يوجياكرتا في إندونيسيا قادرًا على تزويد مختبره بالمجاهر وأوعية زراعة الأنسجة، بتكلفة أقل من %10 من سعرها التجاري، وذلك باستخدام تصميمات مفتوحة المصدر، تتيحها منصة إلكترونية لعلوم الحياة، تُدعى «هاكتيريا»Hackteria
.تُتاح على شبكة الإنترنت مجموعة كبيرة من التصميمات الخاصة بمعدات المختبرات، بدءًا من أجهزة تضخيم الحمض النووي، التي تستخدم تقنية تفاعل البوليميريز المتسلسل PCR، وصولًا إلى المجاهر الفلورية. تقول مولوي إنه لا يتم تسجيل براءات اختراع للمبادئ الأساسية التي تعتمد عليها كثير من هذه المعدات، ما يعني نزاعات ملكية فكرية نادرة الحدوث. وعلى الرغم من أن تصنيع بعض الأجهزة (مثل مجاهر المسح النفقي) أعقد كثيرًا من أن يُجرى في المختبر، إلا أن بيرس يعتقد أنها ستصبح مفتوحة المصدر في نهاية المطاف. ويضيف قائلًا إنه نتيجة للمشاركة المفتوحة لهذه التصميمات الأولية، يمكن لأي شخص نقْدها وتحسينها، ومن ثم تكون نوعية المعدات جيدة على أقل تقدير، بل أفضل مما هو متاح تجاريًّا.
وبالنسبة إلى الباحثين، فإن إمكانية تطويع وتخصيص الأجهزة والمعدات هي أهم ما يميز التصميمات مفتوحة المصدر. ويعلِّق توبياس وينزيل طالب الدكتوراة في الفيزياء الحيوية في جامعة كمبريدج قائلًا: «إذا كان الجهاز مفتوح المصدر، يمكنني أن أكيِّفه وأصلحه. هذا هو الأهم بالنسبة لي».
ضمان الجودة
قد يُعزَى إحجام بقية العلماء عن تطبيق فكرة «اصنعها بنفسك» عمليًّا إلى تشكُّكهم في جودة وكفاءة الأجهزة المفتوحة، مقارنة بالأداء القياسي الموثوق فيه للمعدات التجارية. وقد نما إلى أسماع المشاركين في المؤتمر أنه غالبًا ما تكون الوثائق المرفقة مع التصميمات غير واضحة، أو غير كاملة، وهي تلك المستندات الهادفة إلى معايرة أداء المعدات، طبقًا للمواصفات القياسية، وشرح طريقة استخدامها. ويرى وينزيل أنه من الممكن أن يضع دليل المواصفات القياسية التوافقية، أو دليل الممارسات الأفضل قائمةً مرجعية؛ لضمان قيام المصممين بتلبية جميع المواصفات اللازمة. يقول بيرس عن تلك القائمة: «إنها بمثابة شيء يخبرك: إذا اتبعت هذا النهج؛ ستفلح، وستتمكن من تحقيق درجة عالية من الإتقان والدقة، وستقلل الأخطاء».
تكمن المشكلة في أن عملية إتاحة كافة التفاصيل الخاصة بتصميم ما، بحيث يمكن لأي شخص الاستفادة منها، تستغرق وقتًا وجهدًا، لكنها لا تحظى بالتوثيق العلمي الكافي. «قد يكون من السهل أن تصنع شيئًا لاستخدامك البحثي الشخصي، ولكن من الصعب أن تصنع تصميمًا يتمكن الآخرون من استنساخه بسهولة»، حسبما يقول ريان فوبيل، المهندس في جامعة تورنتو في كندا، الذي ساعد في تطوير رقاقة تُعرف باسم «دروب بوت» DropBot، تعمل بمثابة منصة مفتوحة المصدر، تُستخدَم في المختبرات الحيوية والكيميائية.
ولتحقيق هذا الهدف، ناقش الباحثون في مؤتمر جنيف طرقًا لتوثيق إسهامات مصممي التجهيزات المفتوحة. يحبِّذ البعض رؤية نظام توثيق للتصميمات، أو أن تَنشُر الدوريات العلمية مزيدًا من الأوراق البحثية التي تحوي ملخصات موجزة للتصميمات. وقد يساعد في هذا الإطار وجود مستودع مركزي للأجهزة العلمية المفتوحة؛ فعلى سبيل المثال.. تستضيف المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية أحد مستودعات الأجهزة الإلكترونية المفتوحة، وتمتلك معاهد الصحة الوطنية الأمريكية مستودعًا للطباعة ثلاثية الأبعاد، يضم قسمًا لأجهزة المختبرات، ولكن لا يوجد مستودع واحد يحتوي على كل شيء.
وقد لاحظ فرانسوا جري عالِم الفيزياء في جامعة جنيف، والمشارك في تنظيم المؤتمر، إنه نظرًا إلى عدم رغبة عديد من العلماء في تصنيع الأجهزة بأنفسهم، فإن انتشار الأجهزة مفتوحة المصدر، سيتطلب إسهامًا من المنظمات غير الهادفة إلى الربح، والشركات التي يمكنها توريد الأدوات. وتقوم فعليًّا شركات ـ مثل «أوبن ترونس» OpenTrons في بروكلين في نيويورك، المتخصصة في أنظمة الأنابيب الماصة الآلية ـ بتصميم معدات مختبرية مفتوحة المصدر، وبيع معدات جاهزة مصنَّعة بالاعتماد على تصميمات مفتوحة المصدر. ويقول هافيير سيرانو إن إيجاد نموذج عمل متين من هذا النوع يمثل تحديًا، لأن مثل هذه الشركات ستضطر إلى إتاحة تصميماتها، دون مقابل. يعمل سيرانو مهندسًا في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، وهو من أوائل مَن ساعدوا في اعتماد رخصة للأجهزة المختبرية المفتوحة، تسمح للمطوِّرِين بالتأكد من توثيق ومشاركة جميع التعديلات المستقبلية.
ويعتقد بيرس أنه يمكن للشركات أن تحقق أرباحًا، عن طريق تقديم الدعم للأجهزة المفتوحة، أو عن طريق إجراء فحوص ضمان الجودة، واختبارات تدقيق، تسمح لها بتقديم ما يشبه شهادات ضمان لتلك المنتجات. وتقول مولوي إنه من الممكن أن يساعد تكرارُ قصص نجاح العلماء في هذا المجال في إقناع مؤسساتهم بأهمية التوسع في تصنيع الأجهزة مفتوحة المصدر، حتى لو اعتادت تسجيل براءات اختراع لمنتجاتها.
يقول بيرس إنه يحلم باليوم الذي سيتمكن فيه كل مقال علمي منشور من توجيه قرائه، ليس فقط إلى المناهج التجريبية، بل إلى كيفية صنع المعدات التي تتطلبها الدراسة. وليتحقق ذلك.. لا بد من تعاون الممولين. وتميل كبرى المنح المقدَّمة في هذا الإطار إلى تمويل شراء الأدوات، كل على حدة، ولكن بيرس يفضِّل أن تتجه الأموال إلى الأجهزة مفتوحة المصدر؛ ما سيؤدي ـ في رأيه ـ إلى خفض التكلفة، ورفع مستوى التصميمات بمرور الوقت.